جهـــــــــــاد النفس
إن معرفة أسرار النفس وخباياها وعوالمها في دار التجلي والظهور ليس بالأمر اليسير الذي يتمكن كل إنسان من معرفته, إنها معرفة تختلف عن بقية المعارف, حيث تتطلب الكثير الكثير من العناء و الجهد والصبر والنقاء والصقل والشفافية والانتقال من عالم المادة والظاهر إلى عالم الباطن اللامحسوس, إنها محاولة متواضعة منّا لمعرفة النفس وعوالمها المتوغلة في الغموض المتسربلة بالأسرار البهية المتوهجة بالأنوار القدسية.
إنها مملكة معرفة النفس وكفى بها وصفاً, مملكة يخترقها نهر ابتلانا الله به, فمن شرب منه فهو الخسران المبين ومن غرف غرفة واحدة واكتفى فهو إلى طريق الفلاح والنصر على أعداء الله والروح والنفس, وهم جبابرة أكاسرة ليس من السهل الانتصار عليهم إلا بالتوكل على الله والاعتصام بحبل الإيمان عن طريق جهادٍ جهيدٍ مع تلك النفس وقواها الغريزية البهيمية.فكان ميدان المعركة (الظاهرية) هو الجسد وجنوده وجوارحه التي وجدت في الأقاليم
السبعة: يعني (الأذن, العين,اللسان, البطن, الفرج, اليد, الرجل) وهي أبواب جهنم السبعة عند أهل الكشف والعرفــان, (إن السمع والبصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً). وجميع هذه القوى المتوزعة في الأقاليم السبعة هي تحت تصرف النفس في مقام الوهم, فالوهم سلطان جميع القوى الظاهرية والباطنية للنفس فإذا تحكم الوهم على تلك القوى سواء بذاته مستقلاً أو بتدخل الشيطان, جعلها -أي تلك القوى- جنوداً للشيطان, وبذلك يجعل هذه المملكة تحت تصرفه وتضمحل عندها جنود الرحمن والعقل وتهزم وتخرج من نشأة المُلك (عالم المادة) وعالم الإنسانية وتهاجر عنه, وحينئذٍ تصبح هذه المملكة فريسة الشيطان وجنوده و محط قدم لهم فيها.
إذن فجهاد النفس في هذا المقام عبارة عن انتصار الإنسان على قواه الظاهرية وغرائزه المختلفة, وجَعِلها تأتمر بأمر الخالق الحكيم (جلّت عظمته) وتطهر المملكة من دنس وجود الشيطان وجنوده.إذن علينا في بادئ الأمر أن نتعرف على أقسام النفس و أسرار مملكة النفس، ومعرفة غرائزها وما ينتج عنها من فضائل منجيات أو رذائل مهلكات ومعالجة النفس من تلك الرذائل بالتخلية (تخليتها من كل رذيلة) وتحليتها بالفضائل ليتحقق فيها السمو والعروج نحو الكمال الإنساني.
إن مملكة النفس العجيبة مملوءة بالغرائز المحيرة التي ينبغي التعرف على كل واحدة منها بقدر الطاقة الإنسانية, ومعرفة مدى تأثيرها ونتائجها سلباً و إيجاباً, وقد حدد علماء النفس وعلماء الأخلاق أربع قوى (غرائز) للنفس, عن طريق كل واحدة منها تنبثق عدة فروع سواء كانت فضائل أو رذائل.
الغريزة الأولى والتي تعتبر الحاكمة على جميع الغرائز:
(غريزة) العقل: وهي التي يصفها علماء النفس وعلماء الأخلاق بالقوة والحضرة الملائكية, لأن بهذه الغريزة يدرك الإنسان حقائق الأمور وكل الأحوال التي يتقلب فيها, وبها يميز بين الخير والشر وهي التي تأمر بالأفعال الجميلة, وتنهي عن الأفعال الذميمة وبها يختار الأخلاق الحميدة ويبتعد عن الأخلاق الرذيلة.
الغريزة الثانية هي
غريزة) الغضب:
إن هذه الغريزة تصدر عنها أفعال الحيوانات والسباع الضارية التي يأتي بها الإنسان ويفعلها حين غضبه, فيصبح بها مثل السباع والكلاب والذئاب وغيرها من الحيوانات المفترسة, حيث تمتاز بوحشيتها وغضبها المستمر واعتدائها الدائم وإشعالها نيران الفتن والحروب على مختلف المستويات, وعن هذه الغريزة يصدر عن الإنسان عقارب الأذى وذئاب الحقد واندلاع ألسنة نيران الضغينة, وتمزيق قميص (يوسف) عصره ودهره! واغتصاب حقوق الآخرين والتوثب على المحرمات وإهلاك النسل والحرث!! وفي نفس الوقت يمكن للإنسان أن يستخدمها للدفاع عن نفسه, ويدافع عن حقه وشرفه ودينه وعرضه, كما يمكن للعقل أن يستخدمها لردع الإنسان عن الخطأ والمضي وراء رغائب حقيرة, فإذا ما أحسن الإنسان استعمال هذه الغريزة والقوة المودعة في نفسه كما أراد له الله جلَّت حكمته أن يستعملها حين وهبهُ إياها, وإذا ما أطاعت العقل وانقادت له وانصاعت لأوامره؛ وجد فيها النفع والخير الكثير والفائدة الكبرى.أما إذا طغت وتجبرت وتغلبت على العقل فيا ويل الإنسان والمجتمع الإنساني منها, فإنه يصبح كأي حيوان مفترس
الغريزة الثالثة هي: (غريزة) الشهوة: والتي يسميها علماء الأخلاق بالغريزة البهيمية
لأنها من طباع وسجايا البهائم, وهي التي تأخذ الإنسان إلى بطنه وفرجه, كما هي الحال في البهائم التي همَّها الأكل والشرب والتناسل وهذه الغريزة يصدر عنها الصفات السيئة في حالة الإفراط مثل الشره والحرص الشديد والشبق وحب المال والجاه والرئاسة بدوافع نفسانية وشيطانية وما إليها من صفات بهيمية (سرابية) تتعلق بالشهوة, إلا أن هذه الغريزة من جهة أخرى ضرورية من أجل أن يحفظ جسده وشخصه, وهي التي تدعو إلى التناسل من أجل أن يحفظ بقاء نوعه وأبناء جنسه.
الغريزة الرابعة هي
الغريزة) الوهمية:
والتي يسميها علماء الأخلاق بالغريزة الشيطانية, وهي التي تصدرعنها ألاعيب المكر والخديعة والحيلة والتزوير, وغيرها الكثير من مثل هذه الصفات
الثعلبية والتدليسات الشيطانية, وفائدتها الوحيدة في الإنسان هي أنه يحتاج بعض الأحيان إلى أن يلجأ إلى الحيلة لإصلاح ذات البين مثلاً, وإلى افتراض الخيال فيستعين بها في مثل هذه الأحوال.